آنّ شانغ
ترجمة: أحمد حميدة

سواء تعلّق الأمر بالغربيّين أو بالصّينيّين، وسواء كان ذلك في أوروبا القرن السّابع عشر أو في صين اليوم، فإنّ كونفوشيوس غالباً ما تمّ استخدامه والتلاعب بإرثه الفكري، ليكون تارة مكرّما ومحتفى به، وتارة أخرى منبوذاً ومحلّ مقاومة. أمّا اليوم.. فإنّ القراءة المحافظة لمحاوراته هي التّي تحظى على نحو لافت بالاستحسان والاستحواذ. ولكن ما الذي قد يبرّر العودة المتكرّرة لكونفوشيوس في سياق التّاريخ الحديث للصّين؟ وكيف لنا أن نفسّر أن يكون هذا المعلّم الحكيم الذي عاش ما بين القرنين السّادس والخامس قبل الميلاد، قد اكتسب في صين القرن الواحد والعشرين مثل تلك المكانة الرمزيّة بعد مضيّ ألفين وخمسمائة سنة، أي في فترة تشهد فيها البلاد، وفي إطار عالم بات معولماً، صعوداً لافتاً على المستويين الاقتصادي والجيوسياسي؟

ينبغي لنا التّذكير بداية.. أنّ «كونفوشيوس» هو تحريف لاتيني للتّسمية الصّينيّة « كونغ فوزي» (أي المعلّم كونغ)، تحريف أدخله المبشّرون اليسوعيّون في القرن السّابع عشر، وهم الذين عرّفوا النّخب الأوروبيّة يومذاك على فكر الرّجل وعلى محاوراته. وطبقا للمصادر الصّينيّة القديمة، يكون هذا المعلّم قد أنفق كامل عمره لتربية مجموعة من المريدين على فنّ ممارسة الحكم وفنّ سياسة الذّات، طبقا للطّقوس الإنسانيّة العريقة للمجتمع الصّيني. وعلى إثر توحيد أقاليم الصّين في سنة 221 ق.م من قِبَلِ أوّل إمبراطور للبلاد، جُمعت تعاليمه ومدوّناته المرتبطة بها، وتمّ توظيفها لتشكّل القاعدة الأيديولوجيّة للنّظام الإمبراطوريّ الجديد. ومذّاك وحتّى بداية القرن العشرين، اقترنت شخصيّة كونفوشيوس بمصير الصّين الإمبراطوريّة، حتّى أنّها قد تبدو اليوم وبامتياز، رمزاً للهويّة الصّينيّة. هكذا ينظر لها على الأقلّ في العالم الغربي، وهكذا يتمّ تمجيد هذه الشّخصيّة في الصّين والاحتفاء بها، وأحيانا استخدامها لغايات سياسيّة.
وقد نتغافل.. ونحن نتأمّل هذا الوجه المضيء لكونفوشيوس، عن كلّ التقلّبات التي عرفتها تلك الشّخصيّة في سياق الأحداث التي طبعت تحديث الصّين، والتي جعلت البلاد تمرّ ما بين 1860 و1970 بأحداث مدمّرة. حينها.. ارتسمت انعطافة تاريخيّة هامّة، إذ ولّدت حرب الأفيون الثّانية (1856-1860) لدى النّخب الصّينيّة الوعي بتفوّق الغرب، فتمّت محاولة أولى، عمل زعماؤها على إدخال إصلاحات سياسيّة مستوحاة من التّجربة اليابانيّة في عهد ميجي (1868-1912)، ولكنّها انتهت بفشل ذريع. وكانت النتيجة.. أن عرفت البلاد أزمات حادّة: سنة 1905.. إلغاء نظام الامتحانات الشّهير الذي كان يعرف آنذاك بنظام الوظائف السّامية (امتحانات إلزاميّة تمّ إقرارها منذ القرن السّابع للظّفر بالوظائف السّامية في الإدارة الإمبراطوريّة). وكان هذا النّظام القديم يمثّل الحجر الأساس للنّظام الإمبراطوري، فشكّل إلغاؤه بداية لعمليّة «علمنة» على الطّريقة الصّينيّة. والحال أنّ سلالة الكينغ المنشوريّة، ومعها كلّ النّظام الإمبراطوري سوف يكون مآله الانهيار بصورة نهائيّة بضعة سنين بعد ذلك، ليخلي المكان لأوّل جمهوريّة صينيّة، التي سيعلن عن قيامها سان يات سان سنة 1912.
على المستوى الرمزيّ، كانت أخطر أزمة هزّت المجتمع الصّينيّ يومذاك، هي حركة 4 ماي 1919، التي كشفت عن مدى إحساس المثقّفين بالإحباط ومدى تبرّمهم من واقع صينيّ بات مخجلا ومهينا. وكان هؤلاء يرون أن المخرج يكمن في تحقيق حداثة تمرّ عبر الأخذ بأسباب التقدّم العلمي المتسارع في الغرب، وبناء نظام سياسيّ ديمقراطيّ «يطيح» بكونفوشيوس، الذي حمّل مسؤوليّة كلّ الآلام التي حلّت بالمجتمع الصّيني. لذا.. لم تعد لهؤلاء المناوئين للتّقاليد من غاية، غير الدّفع بكونفوشيوس بأسرع ما يمكن إلى «متحف التّاريخ».

في قفص الاتّهام
مع بداية العشرينات ظهر تشخيص جديد.. غربيّ هو الآخر، أدان بشدّة الكونفوشيوسيّة. إنّه موقف عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبير، الذي انشغل ببيان الأبعاد الأيديولوجيّة لنشأة الرّأسماليّة في أوروبا. معتقدا أنّه قد توفّق في تحديد الظّروف الماديّة التي كان بالإمكان ألاّ تمنع من قيام نظام رأسماليّ في الصّين، خلص فيبير إلى أنّ أسباب ذلك هي بالأساس أسباب أيديولوجيّة، وأنّ تلك الأسباب تكمن بالدّرجة الأولى في وجود الكونفوشيوسيّة. هكذا أصبح التخلّص، وبصورة نهائيّة، من ذلك الإرث «الميّت» شرطا أساسيّا لإدراك الحداثة الغربيّة.
بعد الجيل الذي أعقب سنة 1919، شكّلت سنة 1949، بعد انتهاء الصّراع الصّيني الياباني وانتهاء الحرب الأهليّة، سنة تأسيس الجمهوريّة الشّعبيّة، وفرار الحكومة الوطنيّة إلى تايوان، يصحبها كلّ المعادين للماركسيّة، الذين راحوا يرصدون من منفاهم تطوّر الأوضاع بالصّين الماويّة. وستعرف هذه الأخيرة ذروة الدّمار مع «الثّورة الثّقافيّة» التي أعلن عنها ماو تسي تونغ سنة 1966، قبل أن تتوقّف بعد عشر سنوات، أي بوفاته سنة 1976. وقد استهدفت تلك الثّورة، مثل حركة 4 مايو 1919 محو بقايا المجتمع التّقليدي بما في ذلك الكونفوشيوسيّة.
غير أنّه.. وبعد قرن من التّدمير الذي طال الإرث الكونفوشيوسي، شهدت السّنوات الثّلاثون الأخيرة انقلاب هذا التّأثر. فمنذ الثّمانينات.. غدونا شهود عيان لذلك الانعكاس المذهل الذي برزت علاماته الأولى في أطراف الصّين القاريّة. فمن وضعيّة العائق المتعذّر ردّه، أصبحت الكونفوشيوسيّة بين عشيّة وضحاها المحرّك الأساسي لحركة التّحديث. ولا تعود أسباب ذلك الانقلاب إلى الكونفوشيوسيّة ذاتها، وإنّما للظّرفيّة التّاريخيّة والاقتصاديّة المستجدّة. فبعد مضيّ عشر سنوات فحسب على اندلاع الثّورة الثّقافيّة، تمّ التخلّي بشكل فعليّ عن النّموذج الشّيوعيّ الثّوريّ، فيما غدونا نشاهد نهضة اقتصاديّة غير مسبوقة في ظلّ المعجزة اليابانيّة «للتّنانين الأربعة» (تايوان، هونغ كونغ، سنغافورة وكوريا الجنوبيّة). وقد تمّ دفع أطراف الإمبراطوريّة تلك، وبالتّوازي مع «القيم الآسيويّة» التي كانت تستلهمها، نحو مركزيّة مثاليّة، جعلت تلك الأطراف محلّ اهتمام متزايد، من قبل الغربيّين خاصّة.
وفي الوقت الذي تعمّقت فيه أزمة الشّيوعيّة بفعل انحسار مدّها في الصّين وفي أوروبا الشّرقيّة، كانت المجتمعات الغربيّة الرّأسماليّة تشهد علامات انحدار طال نسق نموّها الاقتصاديّ والاجتماعيّ. وفي مثل تلك الظّرفيّة، انتعشت القيم الكونفوشيوسيّة (أهميّة الرّوابط الأسريّة، احترام التّراتبيّة الاجتماعية، التّشديد على أهميّة التّعليم، محبّة العمل المفيد، الحثّ على الادّخار...)، التي أريد لها تقديم تفسير لتلك النّهضة الاقتصاديّة الآسيويّة الصّرفة. وجاء ذلك التوجّه في حينه، لمعالجة قصور النّموذج الغربي للحداثة، والعمل على تجاوزه.

دحر التفوّق الغربي
وينبغي لنا تلمّس أسباب ذلك الانقلاب.. في الوضع الدّولي، والبحث عن مركزه، لا في المجتمعات الصّينيّة ذاتها، ولكن في أوساط الصّينيّين المتأثرين بالغرب والولايات المتّحدة وسنغافورة. وفي أواسط تلك العشريّة، بلغت عدوى ذلك الانقلاب الصّين الشّعبيّة التي كانت، وهي منشغلة بتصفية الإرث الماوي، تطمح إلى الإمساك بعربة الانتماء الأسيوي، لتتصدّره بعد ذلك وتغدو في طليعته. وقد كانت الكونفوشيوسيّة، التي طالما أهينت وأذلّت خاصّة إبّان الثّورة الثّقافيّة، موضوع ندوة أولى سنة 1978، استهدفت إحياء الفكر الكونفوشيوسي. ومذّاك.. لم تمض سنة واحد، ولم تنعقد فيها ندوات دوليّة حول هذا الموضوع. وفي سنة 1984 تم تأسيس «جمعيّة كونفوشيوس» في بيجين بإشراف قيادات الحزب الشّيوعي. وفي سنة 1992، وأثناء زيارته لأقاليم الجنوب، اعتبر دانغ زياو بينغ آنذاك، سنغافورة.. نموذجاً ينبغي أن يُحتذى به في الصّين، ليعلن بعد ذلك دخول الصّين طور «اقتصاد السّوق الاشتراكي». وإنّه لمن باب المفارقة المضحكة أن تكون العوامل التي عدّها ماكس فيبير معيقة للنموّ الرأسمالي في الصّين، هي تحديداً العوامل التي كانت مسعفة لبلدان جنوب آسيا كيما تتجنّب المشاكل التي تطال المجتمعات الغربيّة الحديثة. هكذا توفّرت للصّين وأطرافها بجنوب وجنوب شرق آسيا، فرصة استثنائيّة لدحر التفوّق الغربي.
وإن لم يكن لتجديد الفكر الكونفوشيوسي أيّة علاقة تذكر بمسألة السّوق، فإنّ هذا الفكر ساهم بالفعل في تحقيق الأغراض السّياسيّة لزعماء سنغفورة وبيجين أو سيول، لقد تفاجأ هؤلاء بنموّ اقتصاديّ متسارع لم يواكبه تطوّر البنى الاجتماعيّة والسّياسيّة، فوجدوا ضالّتهم في تبنّي القيم الكونفوشيوسيّة الضّامنة للاستقرار والانضباط والتّسيير المتوازن للمجتمع، وفي مواجهة الغرب المحبط، الذي باتت تحكمه النّزعة الفرديّة والتمتعيّة المفرطة. وفي ظلّ النّزعة الاستبداديّة الجديدة، اِلتقت الأيديولوجيا الماركسيّة والنزعة المناهضة لها، عند نقطة أساسيّة: لتمثّلات «اشتراكيّة بلا غرب» التي كانت ديدن اليوتوبيا الماويّة، سوف يتمّ إحلال الطّموح إلى حداثة صناعيّة، دائما من دون الغرب، تحت غطاء «ما بعد الحداثة».
لقد هدّأت الأزمة الماليّة لسنة 1997 من تلك الاندفاعة الاقتصاديّة، ولكنّ العودة إلى الشّيخ المعلّم كونفوشيوس لم تتوقّف، بل إنّ الأمر كان على العكس من ذلك تماما. ففي الدّوائر السّياسيّة العليا، أعطى قادة الصّين الأولويّة للحفاظ على التّوازن الاجتماعيّ لتحقيق نموّ اقتصاديّ بعيد المدى. وفي سنة 2005 أطلق الرّئيس هو جينتاو شعار «مجتمع الانسجام الاجتماعيّ»، الذي كان رجع صدى لشعارات أخرى انطوت على دلالات كنفوشيوسيّة ضمنيّة، وإن لم يقع توضيحها: «مجتمع الرّفاه النّسبي» لدانغ زياو بينغ، أو «مجتمع الحكم الرّشيد» لجيان زيمين. وبالاغتراف من معين مبادئ الإدارة الكونفوشيوسيّة للمجتمع، كان الأمر يتعلّق أيضاً بتقديم حلّ بديل للدّيمقراطيّة اللّيبراليّة على الطّريقة الغربيّة. أمّا اليوم.. فقد بات اسم كونفوشيوس، المقترن ضمنيّا بالانسجام، محمّلا بالوعود في السّوق الدّخليّة، ولكن أيضاً كرأسمال رمزيّ: ففضلا عن المعاهد الكونفوشيوسيّة التي غدت متناثرة هنا وهناك في العالم، نلاحظ اليوم انتشاراً متسارعاً لجمعيّات ومراكز بحوث كونفوشيوسيّة.
وبالنّتيجة.. سوف يتمّ استخدام «محاورات» كونفوشيوس أيضا لغايات دعائيّة سياسيّة، وحسبنا مثالا أوحد على ذلك: ففي حفل افتتاح الألعاب الأولمبيّة ببيجين في أغسطس 2008، الذي قام بتنظيمه المخرج السّينمائيّ الشّهير زهانغ ييمو، تأمّلنا مشهداً ردّد فيه جنود من الجيش الأحمر متنكّرين في هيئة مثقّفين كونفوشيوسيّين، حِكمًا لكونفوشيوس مقتطفة من محاوراته، وكان ترديد تلك الحكم شبيها بترديد الجيش لشعارات سياسية أثناء التظاهرات الشعبيّة الكبرى. غير أنّ تلك المحاورات سوف تؤدّي دورها الأساسي خاصّة في مجال التّربية، وهو الدّور الذي ما انفكّت تقوم به طيلة العهد الإمبراطوري. وهنا.. يتعلّق الأمر أيضاً بالتّباهي بأساليب تعليميّة خاصّة بالصّين، تنهل تعاليمها من المعين الكونفوشيوسي، لنشر الأخلاق القويمة بين الأفراد، وتأديب أحداث السنّ خاصّة. ومنذ بداية 1990 بدأ العمل داخل المؤسّسات التّعليميّة على تلقين النّاشئة النّصوص الكلاسيكيّة للكونفوشيوشيّة وخاصّة منها «المحاورات»، وحملهم على حفظها عن ظهر قلب. ويخصّ هذا الشّغف أيضاً كبار السنّ الذين تعطى لهم دروس في إطار ندوات تعرف «بالدّراسات الوطنيّة». هكذا باتت تلتقي عند صورة كونفوشيوس الكليّة الحضور في صين اليوم مصالح «اِقتصاد السّوق الاشتراكي» والضّرورات الأيديولوجيّة لـ«مجتمع الانسجام الاشتراكي».

قراءة غربية
مع بداية العشرينيات ظهر تشخيص غربيّ جديد أدان بشدّة الكونفوشيوسيّة. إنّه موقف عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبير، الذي انشغل ببيان الأبعاد الأيديولوجيّة لنشأة الرّأسماليّة في أوروبا. معتقدا أنّه قد توفّق في تحديد الظّروف الماديّة التي كان بالإمكان ألاّ تمنع من قيام نظام رأسماليّ في الصّين، خلص فيبر إلى أنّ أسباب ذلك هي بالأساس أسباب أيديولوجيّة، وأنّ تلك الأسباب تكمن بالدّرجة الأولى في وجود الكونفوشيوسيّة. هكذا أصبح التخلّص، وبصورة نهائيّة، من ذلك الإرث «الميّت» شرطا أساسيّا لإدراك الحداثة الغربيّة.

الكاتبة في سطور
آنّ شانغ.. ولدت في باريس سنة 1955 من أبوين صينيّين، وهي ابنة الشّاعر الصيّنيّ- الفرنسيّ الشهير فرانسوا شانغ، العضو بالأكاديميّة الفرنسيّة. تغذّت في مسيرتها التّعليميّة بالثّقافة الكلاسيكيّة الغربيّة، قبل أن تتفرّغ كليّة للدّراسات الصّينيّة، ومنذ ثلاثين سنة ما انفكّت تعمّق بحوثها في التّاريخ الفكري للصّين، وخاصّة الفكر الكونفوشيوسي، وذلك في إطار «المركز الوطني للبحث العلمي»، ثمّ «المركز الوطني للّغات والحضارات الشّرقيّة» بفرنسا. كما تمّ انتدابها للتّدريس ب «الكوليج دي فرانس» حيث شغلت ولا تزال.. كرسيّ الدّراسات الصّينيّة.
تناولت بالتّرجمة «محاورات كونفوشيوس»، ونشرت لها أعرق دور النّشر بفرنسا عديد الدّراسات والبحوث عن كونفوشيوس، وكتاب «تاريخ الفكر الصّيني» الذي ترجم إلى عديد اللّغات.. هذا فضلا عن أعمال كثيرة أخرى تهمّ حضارة الصّين العريقة.